فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأراد الله أن يدربه عليها تدريبًا واقعيًّا، ليعلم أن العصا ستستجيب له حين يلقيها فتنقلب حية، وكان ذلك أول إلقاء لها، أما الإِلقاء الثاني فكان ساعة أن جاء لفرعون للإِعلام بمهمته أنه رسول رب العالمين، وإعلامه بالبينة، وهو ما نحن بصدده الآن في هذه الآية التي نتكلم بخواطرنا الإِيمانية فيها.
ثم هناك إلقاء ثالث وهو إلقاء التحدي للسحرة، ولأن لكل إلقاء موقعًا فلا تقل أبدًا: أن ذلك تكرار. وإنما هو تأسيس لتعدد المواقف والملابسات، فلكل موقف ما يتطلبه، فلا تغني لقطة هنا عن لقطة هناك. {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 107].
ومرّة يقول عن العصا: {كَأَنَّهَا جَآنٌّ}.
ويقول المشككون في كلام الله من المستشرقين: كيف يقول مرة إنها ثعبان مبين. ثم مرة أخرى يقول: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى}، ومرة ثالثة يقول: {كَأَنَّهَا جَآنٌّ}. ونقول: إن هناك فارقًا بين مختلفات تتناقض، ومختلفات تتكامل، فهي ثعبان مرة، وهي حية مرة ثانية، وهي جان؛ لأن الثعبان هو الطويل الخفيف الحركة، والحية هي الكتلة المخيفة بشكلها وهي متجمعة، والجان هو الحية المرعبة الشكل. فكأنها تمثلت في كل مرة بمثال يرعب من يراه، وكل مرة لها شكل؛ فهي مرة ثعبان، ومرة حية، وثالثة جان، أو تكون ثعبانًا عند من يخيفه الثعبان، وتكون حية عند من تخيفه الحية، وتكون جانًا عند من يخيفه الجان، ولذلك تجد أن إشاعة الإِبهام هو عين البيان للمبهم.
ومثال ذلك إبهام الحق لأمر الموت، فلا يحكمه سن، ولا يحكمه سبب، ولا يحكمه زمان، وفي هذا إبهام لزمانه وإبهام لسببه مما يجعله بيانًا شائعًا تستقبله بأي سبب في أي زمان أو في أي مكان، وهكذا يأتي الإِبهام هنا لكي يعطينا الصور المتكاملة، وقال بعض المستشرقين: إن المسلمين يستقبلون القرآن بالرهبة وبالانبهار. ولا يحركون عقولهم لكي يروا المتناقضات فيه، لكن غير المسلم إن قرأ القرآن يتبين فيه أشياء مختلفة كثيرة، قالوا بالنص: أنتم تعلمون بقضايا اللغة أن التشبيه إنما يأتي لتُلْحِق مجهولًا بمعلوم، فيقال: أنت تعرف فلانًا، فتقول: لا والله لا أعرفه. فيقول لك: هو شكل فلان؛ في الطول، وفي العرض، وفي الشكل، إذن فقد ألحق مجهولًا بمعلوم ليُوضحه. فكيف يلحق القرآن مجهولًا بمجهول، إن هذا لا يعطي صورة مثلما تكلم القرآن عن شجرة الزقوم فقال: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 64- 65].
فكيف توجد شجرة في الجحيم، إنها أشياء متناقضة؛ لأن الشجرة فيها خضرة، وتحتاج إلى ري، ومائية، والجحيم نار وجفاف، ثم إن الشيطان غير معلوم الصورة للبشر، وشجرة الزقوم غير معلومة لأنها ستأتي في الآخرة، فكيف يُشَبِّه الله مجهولًا بمجهول.
واستخدم المستشرقون ذلك كدليل على أن المسلمين يأخذون القرآن بانبهار ولا يبحثون فيه، ونرد عليهم: أنتم لا تعلمون لغة العرب كملكة، بل عرفتموها صناعة، ولم تتفهموا حقيقة أن القرآن جاء على لغة العرب. وقد تخيلت لغة العرب أشياء رأت فيها البشاعة والقبح؛ كأن قالوا:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال

والغول كائن غير موجود، لكنهم تخيلوا الغول المخيف وأن له أنيابًا... إلخ.
إذن التشبيه قد يكون للأمر المُتَخَيَّل في أذهان الناس، والأصل في التشبيه أن يلحق مجهولًا ليُعلم، وشجرة الزقوم لا نعرفها، ورءوس الشياطين لم نرها، وهكذا ألحق الله مجهولًا بمجهول، ولماذا لم يأت بها في صورة معلومة؟. لأنه سبحانه يريد أن يشيع البيان، ويعمم الفائدة ويرببها؛ لأن الإِخافة تتطلب مخيفًا، والمخيف يختلف باختلاف الرائين، فقد يوجد شيء يخيفك، ولكنه لا يخيف غيرك، وقد تستقبح أنت شيئًا، ولكن غيرك لا يستقبحه، ولذلك ضربنا- سابقًا- مثلًا. وقلنا: لو أننا أحضرنا من كبار رسامي الكاريكاتور في العالم، وقلنا لهم: ارسموا لنا صورة الشيطان تخيلوا الشيطان وارسموه، أيتفقون على شكل واحد فيه؟ لا؛ لأن كل رسام سيرسم من وحي ما يخيفه هو.
ولقد قال الله في صورة: شجرة الزقوم {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين}؛ ليتخيل كل سامع ما يخيفه من صورة الشيطان، فتكون الفائدة عامة من التخويف من تلك الشجرة. لكنه لو قالها بصورة واحدة لأخاف قومًا ولم يخف الآخرين. ومثال ذلك أمر عصا موسى، فهي مرة ثعبان، ومرة جان، ومرة حية، وكلها صور لشيء واحد مخيف، ويقول الحق هنا في سورة الأعراف: {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ}.
وقوله: {فَإِذَا هِيَ} يوضح الفجائية التي أذهلت فرعون، فقد تحولت العصا إلى ثعبان ضخم في لمح البصر بمجرد إلقائها، ومن فوائد تدريب سيدنا موسى على إلقاء العصا في طور سيناء أن موسى لن تأخذه المفاجأة حين يلقيها أمام فرعون، بل ستأخذ المفاجأة فرعون. كأن التدريب أولًا لإِقناع موسى وضمان عدم خوفه في لحظة التنفيذ، وقد خاف منها موسى لحظة التدريب؛ لأن العصا صارت ثعبانًا وحيَّة حقيقية، ولو كانت من نوع السحر لظلت عصا في عين الساحر ولا يخاف منها، إذن خوفه منها إبَّان التدريب دليل على أنها انقلبت حقيقة، ولا تخيلًا، وتلك هي مخالفة المعجزة للسحر، فالمعجزة حقيقة والسحر تخييل، وهذا هو الذي سيجعل السحرة يخرون ساجدين لأنهم قد ذهلوا مما حدث. {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 107].
و{مبين} أي بيّن، وواضحة ملامحه المخيفة التي لا تخفى على أحد، ويقدم موسى عليه السلام الآية الثانية، فيقول: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا...}.
{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)}.
وهذه آية معجزة أخرى. وقوله: {ونزع} تعني إخراج اليد بعسر، كأن هناك شيئًا يقاوم إخراج اليد؛ لأنه لو كان إخراج اليد سهلًا، لما قال الحق: {وَنَزَعَ يَدَهُ} لأنَّ النزع يدل على أن شيئًا يقاوم، ومثال ذلك قوله الحق: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاءُ...} [آل عمران: 26].
لأن نزع الملك ليس مسألة سهلة؛ ففي الغالب يحاول صاحب الملك التشبث بملكه، لكن الحق ينزعه من هذا الملك. كذلك قوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ}، وهذا يدل على أن يده لها وضع، ونزع يده وإخراجها بشدة له وضع آخر، كأنها كانت في مكان حريص عليها. إذن ففيه لقطة بينت الإِدخال، ولقطة بينت النزع، وهما عمليتان اثنتان. وقال سبحانه في آية ثانية: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سواء...} [النمل: 12].
والجيب هو مكان دخول الرأس من الثوب، وإن كنا نسمي الجيب في أيامنا مطلق شيء نجعله وعاء لما نحب، وكان الأصل أن الإِنسان حين يريد أن يحتفظ بشيء، يضعه في مكان أمامه وتحت يده، ثم صنع الناس الجيوب في الملابس، فسميت الجيوب جيوبًا لهذا.
والحق قال في موضع آخر: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سواء آيَةً أخرى} [طه: 22].
إذن ففيه إدخال وإخراج، وكل آية جاءت بلقطة من اللقطات؛ فآية أوضحت دخول اليد في الجيب، وأخرى أوضحت ضم اليد إلى الجناح، وثالثة أوضحت نزع اليد، وهذه لقطات متعددة، تكوّن كلها الصورة الكاملة؛ لنفهم أن القصص في القرآن غير مكرَّر، فالتكرير قد يكون في الجملة. لكن كل تكرير له لقطة تأسيسية، وحين نستعرضه نتبين أركان القصة كاملة. فكل هذه اللقطات تجمَّع لنا القصة. وقلنا قبل ذلك: إن الصراع بين فرعون وموسى لا ينشأ إلا عن عداوة، وحتى يحتدم الصراع لابد أن تكون العداوة متبادلة، فلو كان واحد عدوًّا والثاني لا يشعر بالعداوة فلن يكون لديه لدد خصومة، وقد يتسامح مع خصمه ويأخذ أمر الخلاف هينا ويسامحه وتنفض المسألة. لكن الذي يجعل العداوة تستعر، ويشتد ويعلو لهيبها أن تكون متبادلة. وتأتي لنا لقطة في القرآن تثبت لنا العداوة من فرعون لموسى، ولقطة أخرى تثبت العداوة من موسى لفرعون، فالحق يقول: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ...} [طه: 39].
هذه تثبت العداوة من فرعون لموسى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا...} [القصص: 8].
وهذه تثبت لأن موسى عدوٌّ لهم. وكلتا اللقطتين يُكمل بعضها بعضًا لتعطينا الصورة كاملة.
والحق هنا يقول: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 108].
ونعرف أن موسى كان أسمر اللون، لذلك يكون البياض في يده مخالفًا لبقية لون بشرته، ويده صارت بيضاء بحيث يراها الناس يلفتهم ضوؤها ويجذب أنظارهم، وهي ليست بيضاء ذلك البياض الذي يأتي في سُمرة نتيجة البرص، لا؛ لأن الحق قال في آية أخرى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سواء...} [طه: 22].
وكل لقطة كما ترى تأتي لتؤكد وتكمل الصورة. إذن فقوله: {بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} يدل على أن ضوءها لامع وضئ، يلفت نظر الناس جميعًا إليها، ولا يكون ذلك إلا إذا كان لها بريق ولمعان وسطوع، وقوله: {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سواء} يؤكد أن هذا البياض ليس مرضًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}.
{فإذَا} فجائية وقد تقدَّم أنَّ فيها مذاهبَ ثلاثةً:
ظرف مكان، أو زمان، أو حرف.
وقال ابن عطية هنا: وإذَا ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرِّد من حيثُ كانت خبرًا عن جثة، والصَّحيحُ الذي عليه النَّاسُ أنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ في كلِّ مَوْضِعٍ.
قال شهابُ الدِّين: والمشهورُ عند النَّاسِ قول المبردِ، وهو مذهب سيبويه.
وأمَّا كونها زمانًا فهو مَذْهَبُ الرِّيَاشي، وعُزِيَ لسيبويه أيضًا.
وقوله: من حيث كانت خبرًا عن جثَّة ليست هي هنا خبرًا عن جُثَّة، بل الخبرُ عن {هي} لفظ {ثُعْبَان} لا لَفْظ إذا.
والثُّعْبَانُ هو ذَكَرُ الحيَّاتِ العظيم، واشتقاقُه من ثَعَبْتُ المكان أي: فجَّرْتُه بالمَاءِ، شُبِّه في انسيابه بأنْسِيَابِ الماء، يقال: ثَعَبْتُ الماءَ فجَّرْتُه فانْثَعَبَ.
ومنه مَثْعَبُ المطر، وفي الحديث: «جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَجَرْحُهُ يَثْعَبُ دمًا».
{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}.
النّزع في اللُّغَةِ عبارة عن إخراج الشَّيء عن مكانه، فقوله: {نَزعَ يَدَهُ} أي أخرجها من جَيْبِهِ ومن جناحه، بدليل قوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل: 12]، وقوله: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} [طه: 22].
قوله: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} قال ابن عباس: كان لها نور ساطع يضيء بين السَّماء والأرض، واعلم أنَّهُ لمَّا كان البياض كالعيب بيَّن تعالى في غير هذه الآية أنَّهُ كان من غير سوء.
قوله: {للنَّاظرينَ} متعلق بمحذوف لأنَّهُ صفة لـ {بيضاء} وقال الزَّمخشريُّ: فإن قلت: بم تعلق للناظرين؟ قلت: يتعلَّقُ بـ {بيضاء} والمعنى: فإذا هي بيضاء للنَّظارة، ولا تكون بيضاء للنَّظَّارةِ إلا إذا كان بياضها بياضًا عجيبًا خارجًا عن العادةِ، يجتمعُ النَّاس للنَّظر إليه، كما يجتمع النَّظَّارة للعجائب.
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ تفسير معنى لا تفسير إعراب، وكيف يريدُ تفسير الإعراب؟ وإنَّما أراد التعلُّق المعنويُّ لا الصّناعي، كقولهم: هذا الكلامُ يتعلق بهذا الكلام.
أي إنَّهُ من تتمَّةِ المعنى له. اهـ. باختصار يسير.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآيتين:
قال عليه الرحمة:
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)}.
إنما أظهر له المعجزةَ مِنْ عَصَاه لطولِ مقارنته إياها، فالإنسانُ إلى ما أَلِفَه أَسْكَنُ بقلبه. فلمَّا رأى ما ظهر في العصا من الانقلاب أخذ موسى عليه السلام في الفرار لتحققه بأن ذلك من قهر الحقائق، وفي هذا إشارة إلى أنَّ السكونَ إلى شيءٍ غِرَّةٌ وغفلةٌ ايش ما كان، فإنَّ تقلب العبد في قَبْضِ القدرة، وهو في أَسْر التقلُّب، وليس للطمع في السكون مساغٌ بحال.
{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)}.
العصا- وإِنْ كانت معه من زمنٍ- فَيَدُه أخصُّ به لأنها عضو له، فكاشَفَه أولًا بِرَسْمٍ مِنْ رسْمِه ثم أشهده من ذاته في ذاته ما عَرَفَ أنه أوْلى به منه، فلما رأى انقلابَ وصفٍ في يده عَلمَ أنه ليس بشيء من أمره بيده. اهـ.